ذكريات من دولاب محام

ذكريات من دولاب محامٍ

في مساء خريفي هادئ، وقف يوسف أمام خزانته المفتوحة، لا يبحث عن ملبس، بل عن معنى.
صفٌ طويل من البدل، مصطفة كأنها أرشيف صامت لحياته المهنية، كل واحدة منها تحمل أثرًا من قضية، من لحظة، من سؤال لم يُجب عليه.

مدّ يده نحو بدلة رمادية داكنة، بها تمزق صغير عند الكتف.
كانت أول ما ارتداه يوم دخل المحكمة كمحامٍ مستقل.
يتذكر جيدًا تلك القضية التي خسرها رغم يقينه بالحق، وكلمات القاضي التي ما زالت ترنّ في أذنه:

“القانون لا ينتصر دائمًا للحق، بل لما يمكن إثباته.”
منذ ذلك اليوم، بدأ يوسف يفهم أن العدالة ليست دائمًا مرآة للحق، بل أحيانًا مجرد انعكاس لما يُقال ويُدوّن.

ثم انتقل ببصره إلى بدلة زرقاء أنيقة، ارتداها يوم التقى نادين، الصحفية التي كتبت عنه بشغفٍ ونقد، ثم أحبته بصمتٍ مشوبٍ بالشك.
يتذكر رسالتها الأخيرة، حين قررت أن تبتعد:

“أنت لا تدافع عن القانون، بل عن نفسك.”
انتهت العلاقة، لكن بقيت البدلة، كأنها تحفظ حرارة المواجهة وبرودة الفراق في خيوطها.

وبين البدل، كانت هناك واحدة سوداء، ارتداها في ندوة قانونية حين التقى أستاذه القديم.
ذلك الرجل الذي قال له بنبرة لا تخلو من حزن:

“حين تنسى لماذا اخترت القانون، تبدأ في استخدامه كدرع لا كمرآة.”
بعد ذلك اللقاء، كتب يوسف دفترًا صغيرًا بعنوان “لماذا بدأت؟”، ما زال يحتفظ به في درج مكتبه، كأنما يخشى أن ينسى الإجابة.

وفي يومٍ بدا كأنه نسخة باهتة من أيام كثيرة، دافع يوسف عن متهم في قضية تشبه تلك التي وقف فيها يومًا إلى جانب المجني عليه.
استجوب الشهود، فكك الروايات، عرض تسجيلًا قلب الموازين.
وفي لحظة فارقة، صرخ المجني عليه:

“كلكم كذابين! هو غلط، بس مش لوحده!”
لكن القاعة كانت تتابع يوسف، لا الصراخ.
صدر الحكم: براءة المتهم.
هتافات من جهة، همسات غاضبة من جهة أخرى.
ويوسف، وسط كل ذلك، خرج صامتًا، مثقلًا.

في المساء، جلس وحده في قاعة المحكمة بعد انصراف الجميع.
الخشب المصقول، المقاعد الفارغة، منصة القاضي التي بدت أقل رهبة حين لا أحد يراقبها.
كان كل شيء ساكنًا، كأن الزمن توقف احترامًا لصمته.

أغمض عينيه، وبدأ يتخيّل نفسه خارج كل ما يعرفه.
لا أوراق، لا مرافعات، لا وجوه تنتظر منه أن يوجّهها أو يربكها.
لا خصم، لا موكّل، لا جمهور.
هو فقط، في فضاء لا يُطلب فيه إثبات، ولا يُخشى فيه التناقض.

تخيّل أنه يصرخ.
صرخة لا تُسجَّل، لا تُحلَّل، لا تُستخدم كأداة.
صرخة لا تُفسَّر كغضب، ولا تُحمَّل معنىً قانونيًا أو نفسيًا.
صرخة لا تُدين أحدًا، ولا تُبرّئ أحدًا.
صرخة لا تُغيّر شيئًا، لكنها تُحرّره من كل شيء.

ثم يصمت.
صمتٌ لا يُنتظر منه أن ينتهي، ولا يُملأ بتأويلات.
صمتٌ لا يُفسَّر كانسحاب، ولا يُستخدم كدليل على ضعف أو تردد.
صمتٌ نقي، كأنما يقول: “أنا هنا، لا لأثبت شيئًا، بل لأكون.”

يتخيّل أنه يمشي، لا في اتجاه معاكس، ولا في اتجاه مقصود.
يمشي لأن الحركة جزء من وجوده، لا من دوره.
لا أحد يظن أنه يقودهم، ولا أحد يظن أنه ضلّ الطريق.
هو فقط يتحرّك، بلا هدف، بلا رسالة، بلا أثرٍ يُحسب عليه.

في هذا الخيال، لا توجد محكمة.
ولا قانون يُحتكم إليه.
ولا عدالة تُنتظر.
ولا ظلم يُخشى.
الحق ليس قضية، والباطل ليس خصمًا.
الكل صامت، لا لأنهم خائفون، بل لأنهم لا يحتاجون للكلام.

يتخيّل أنه يضحك.
ضحكة لا تُفسَّر كاستهزاء، ولا تُستخدم كدليل على جنون أو استخفاف.
ضحكة لا تُربك أحدًا، ولا تُحرج أحدًا، ولا تُغيّر شيئًا.
ضحكة خفيفة، كأنها تنتمي لطفلٍ لم يتعلّم بعد أن يُحسب عليه كل فعل.

ثم يتخيّل أنه ينام.
نومٌ بلا قلق، بلا مراجعة، بلا استدعاء.
لا أحد ينتظر منه تقريرًا، ولا أحد يطلب منه تفسيرًا.
هو فقط ينام، كأنما يقول للعالم:

“أنا لست شاهدًا، ولا متهمًا، ولا قاضيًا.
أنا مجرد إنسان… يريد أن يرتاح.”

فتح دفتره الجلدي، وكتب:

“البدلة لا تشهد، لكنها تحفظ الذاكرة.
والذاكرة لا تُحاكم، لكنها تحكمنا.
أما العدالة… فهي ليست رأيًا يُجمع عليه، بل ميزانًا لا يراه إلا الله.”

ثم أغلق الدفتر، دون إحكام، ، كأنما يقول:

“أنا لم أنتهِ بعد.”





دردشة مش دروشه رأيكم يهمنا ومتابعتكم شرف لنا والشير خير دليل ان الموضوع عجبكم

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصة عشق

احلام الصابرين

ارض الاحلام